مترجم| الفقد والتعلق

الخميس، 23 يناير 2020





من منا لم يعاني من ألم الفقد؟
الفقد والخسارة جزء من حياتنا تماماً مثل الفرح والسعادة.
لا مفر من الموت، كأن السبب الأول للموت هو الحياة نفسها.



عندما نشر جون بولبي كتابه الرئيسي الأول أطلق عليه أسم "التعلق والخسارة" كان هذا اعترافاً منه بأنه في أوقات الخسارة يتم تنشيط نظام التعلق. في الفقد والخسارة سنستخدم أنماط التعلق التي اكتسبناها في الطفولة لنتعامل مع المحنة ونستعيد شعورنا بالأمان.

بالنسبة للقراء الذين ليسوا على دراية بنظرية التعلق. فإن أنماط التعلق هي طرق للتفكير والشعور والسلوك؛ تعبر عن قدرتنا على إنشاء علاقات حميمة مع الأشخاص ذوي الأهمية في حياتنا والمحافظة عليها. في الطفولة كانت تمثل استراتيجية تكيف تُمّكِن الأطفال من التأقلم مع أي ظروف والدية يولدون فيها.

1-  التعلق الآمن: إذا كانت الأم جاهزة لرعاية الطفل ومتجاوبة معه وتتصرف بطريقة مراعية وثابتة متسقة فإن طفلها سيجد أنه ليس بحاجة لبذل الكثير من الجهد من أجل الحفاظ على الشعور بالأمان في علاقته معها. نمط تعلقه الآمن يمكنه من التواصل الاجتماعي بسهولة مع الآخر، وفهمه بدقة واتخاذ ردود الفعل الملائمة، والتحكم بمشاعره وتصرفاته بطرق صحية.
2- التعلق التجنبي: عندما ترفض الأم حاجة الطفل للتقارب والاطمئنان، سيتعلم الطفل إنكار مشاعره السلبية واحتياجه للعلاقات الحميمة. الأطفال في هذا النمط سيحاولون زيادة شعورهم بالأمان عن طريق الاكتفاء بأنفسهم وتطوير نمط تعلق تجنبي رافض وسيحاولون الحصول على استحسان الوالدين وقبولهم لهم بشكل غير مباشر عن طريق الفوز في مجالات آخرى مثل الدراسة والرياضة والعمل على إثبات الذات والثقة بالنفس.
3-  التعلق المنشغل: عندما يكون سلوك الأم غير متسق ومزاجي في التعامل مع الطفل – احياناً تتصرف بدفء ومحبة وفي أحيان آخرى ببرود وتجاهل ورفض- فإن الطفل سوف يطور استراتيجية تكيف يتعلم فيها مراقبة حالة الأم المزاجية بعناية ويبحث طوال الوقت عن الشعور بالآمان من خلال العمل على مواجهة الرفض والبعد قبل حدوثه. هؤلاء الأطفال يطورون نمط التعلق القلق المنشغل حتى يتمكنوا من البقاء متيقظين لأي علامات تشير إلى الرفض والبعد. لهذا نجدهم يلتصقون بمن يحبونه ليكونوا أقرب ما يكون له ولا يرغبون في التخلي عنه ويرفضون فكرة البعد ويواجهون صعوبة في التعامل مع خسارته خاصة إذا لم يتمكنوا من فهم السبب المنطقي للخسارة.
4-  التعلق غير المنتظم: إذا كانت الأم خائفة (تعرضت لصدمة أو أذى أو إرهاب) أو مخيفة (متنمرة ومؤذية وعصبية) لن يكون الطفل قادراً على تطوير طرق منتظمة للتصرف والتكيف. البيئة غير متوقعة ابداً لذا الأطفال فيها سيطورون تعلق غير منتظم – تعلق تجنبي خائف أو عالق أو غير محلول لدى الراشدين "تعا ولا تجي🎶"- يواجه هؤلاء الأفراد وقتاً عصيباً في التعامل مع الخسائر لاحقاً في حياتهم لأنهم لم يتمكنوا من حلها ابداً في وقت مبكر من الطفولة. هذا سيذكرك باضطراب كرب ما بعد الصدمة PTSD حيث يعتبر أكبر منبئ لتطوير الاضطراب لدى الشخص البالغ بعد حدوث صدمة ما هو وجود صدمات غير محلولة في وقت مبكر من الحياة.

من المنطقي أن يكون لأنماط التعلق تأثير على كيفية تعامل الأشخاص مع الخسارة. ولكن ينبغي أن أشير إلى أنه قد يكون هناك اختلافات كبيرة بين فقدان شخص عزيز بسبب الهجر والتخلي وفقدان عزيز بسبب الموت، مع الموت يصعب التشكيك في دوافع الآخر لتركك.

 تظهر الأبحاث أن الأشخاص ذوي أنماط التعلق غير الآمن (التجنبي الرافض، القلق المنشغل، غير المنتظم) يشعرون بالمزيد من الحزن وينمون بشكل أقل بعد الصدمة مقارنة بالأشخاص ذوي التعلق الآمن (Cohen & Katz, 2015) الأشخاص ذوي التعلق التجنبي الرافض بشكل خاص أبلغوا عن نمو أقل بعد وفاة شخص عزيز، كما أنهم يميلون إلى قمع مشاعرهم السلبية وتحولها إلى أعراض جسدية مثل الصداع والآلام الباطنية. (Wayment & Vierthaler, 2002)

على النقيض من ذلك؛ ذوي النمط القلق المنشغل لا يقمعون مشاعرهم ويظلون تحت وطأة الحداد لفترة طويلة (Lai et al., 2015; Maccallum & Bryant, 2018) من المتوقع أن يتأثر ذوي النمط القلق المنشغل بشدة بالخسارة ومشاعرهم تستمر لفترة أطول وقد يشعرون بغضب حاد وممتد من الموقف وربما حتى من الشخص العزيز المفقود. وبحسب روايتهم يرون أن أحزانهم تتزايد مع الوقت بدلاً عن شعورهم بالتحسن.

قد يبدو أن ذوي التعلق التجنبي الرافض يتعاملون بشكل أفضل مع الفقد، لكن هذا يعتمد على كيف نعّرف "التعامل الأفضل". نعم، هم يظهرون أقل حزناً وضيقاً أمام الآخرين وقد يظن البعض أنهم قساة ولا يكترثون. لكن قمع المشاعر بهذه الطريقة غير صحي وقد يؤدي إلى المزيد من المشكلات الصحية الجسدية والنفسية ويهدد سلامة العلاقات الاجتماعية فيما بعد.

ذوي النمط غير المنتظم أو الخائف قد يصبحون حرفياً غير منظمين وفي حالة فوضى عاطفياً وسلوكياً بعد الخسارة. لأن الخسارة الجديدة قد تثير المشاعر والأفكار المتعلقة بالخسائر التي لم يتم حلها في الماضي. هذا مشابه لحدوث Emotional flashback في حالة اضطراب كرب ما بعد الصدمة PTSD.

الرسائل المستفادة هي:
1- الأشخاص ذوي أنماط التعلق المختلفة في حالة الحداد يعبرون عن أنفسهم بطرق مختلفة.
2- ينبغي علينا أن نتعاطف وأن لا نحكم بقسوة على سلوك الآخرين خلال فترة الحداد، البعض قد ينغلق وينسحب، والبعض قد يتصرف بشكل درامي ويعبر بانفتاح ويكشف عن مشاعره العميقة، وآخرون قد يبدون الحدة والغضب والاهتياج.
3- تذكر أن ردة فعل الشخص على الفقد ليست دائماً مؤشر جيد على مدى حبه -أو عدم حبه- للميت.

لقد رأيت أشخاص يسحقهم الحزن على وفاة أحد لم يكونوا قريبين منه. ورأيت من يبكي لفترة قصيرة ثم يتخطى المرحلة ويعود ليتصرف بشكل طبيعي بعد وفاة أحد والديه الذين يحبهم بشدة. ورأيت من يستمرون بالنحيب لسنوات طويلة بعد الفقد، يتمسكون بحزنهم ولا يسمحون لأنفسهم بتخطيه بشكل طبيعي لأنهم يعتقدون أن ذلك علامة على أنهم لا يكترثون فعلاً لأمر الميت.

في النهاية، علينا جميعاً أن نتخطى الفقد بأفضل طريقة ممكنة. يمكن أن نشهد زيادة في النمو كنتيجة لخسائرنا المؤلمة، فقط اسمح للألم بأن يتلاشى وكن منفتحاً لما سيأتي.
ومن يدري ربما يمكنك معرفة المزيد عن نمطك في التعلق من خلال ملاحظة ردود أفعالك على الفقد بدلاً من تطبيق استبيان آخر للتعلق.




 هال شوري
معالج نفسي وعالم نفس متخصص في نظرية التعلق
مترجم عن: النص الأصلي





0 التعليقات:

إرسال تعليق