من المقال
السابق سنرى أن مراعاة الآخرين والتعاطف معهم هي أفضل أساس تقوم عليه الأخلاق
والفضيلة. وبما أن الأخلاق يفترض أن تنطبق على الجميع؛ فهل نستطيع أن نفترض أن
الجميع لديه قدرة على التعاطف؟
بالتأكيد لا
"فلو رأيت
شخص يسلك سلوك لا أخلاقي وسألته: (كيف ستشعر لو أن أحداً فعل مثل هذا بك؟)
قد يجيب (سأكره
ذلك طبعاً ولكن من حسن الحظ أنني أنا من يفعل ذلك وليس أحد يفعله بي .. لذا أنا لا
أمانع)
غاية هذا السؤال
أن تجعله يشعر بشعور الضحية لكنه لا يهتم إلا بمشاعره ولا يرى الأمر إلا من وجهة
نظره وحده..
لكن حين تهدد
مصالحه ويصبح هو الضحية فسيشعر حينها أنه يجب على الآخرين أن يهتموا وعليهم أن
يراعوا مشاعره ولا يؤذوه!
فإذا كان هذا سبب يجب أن يمنع أي أحد من إيذاء أي
أحد؛ فعليه أن يمنعك أنت ايضاً من إيذاء الآخرين. ينبغي أن تكون
أفكارك متسقة في الحالتين (في حالة كنت المؤذي أو الضحية)"
إذن أساس
الأخلاق هو الاعتقاد بأن فعل الطيب أو الضرر هو فعل جيد أو سيء ليس فقط من وجهة
نظرك لكن من وجهة نظر الآخرين ايضاً. هذا يعني أنه حين يقرر أي شخص ما يفعل فعليه
أن يراعي مصالحه ومصالح الآخرين ايضاً، من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وفي ديننا
الإيمان مشروط بهذا المبدأ الأخلاقي " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه".
لكن لماذا
يعتقد الناس بأنهم طيبون وأخلاقيون بالرغم من أنهم يرتكبون انتهاكات أخلاقية بشكل
متواتر في حياتهم؟
سبق أن غردت الزميلة زهرة @zhraa_alshehri بمقال يلخص دراسة تجيب عن هذا السؤال حيث وجد
أن ذاكرة السيرة الذاتية تتبع آليتان لتعزيز الاعتقاد بأن الذات جيدة وأخلاقية
على الرغم من السلوك اللاأخلاقي المتكرر كالتالي:
١- تحيز
الذاكرة وميلها لنسيان تفاصيل التجاوزات اللاأخلاقية وتذكر الأفعال الأخلاقية
الجديرة بالثناء.
٢- عندما لا
يتم نسيان التجاوزات الأخلاقية السابقة يقارن الناس بين سلوكياتهم غير الأخلاقية
الحديثة مع سلوكياتهم غير الأخلاقية القديمة لتعزيز تصورهم للتحسن الأخلاقي مع
مرور الوقت وهذا يساعدهم على الحفاظ على تصور إيجابي للذات الحالية ويعزز شعورهم
بالرضا عن أنفسهم.
في حلقة آخرى
من The Blacklist تعاطفت العميلة الخاصة
اليزابيث كين مع أم إرهابية كانت تعتقد أنها تدافع عن مصلحة وطنها وتسعى لنشر العدالة وضحت بنفسها ومنحت قلبها لطفلها المريض في عملية جراحية غير مشروعة. في بعض القصص الآثم
قد يكون قديساً من وجهة نظر آخرى. عادة ما يعتقد
بعمومية الأخلاق فإذا كان أمر ما خاطئاً فمن المفترض أن يكون خاطئاً بالنسبة للجميع
ولا يختلف الحكم عليه باختلاف وجهات النظر، لكن إن كانت قراراتك لفعل الأشياء أو
تجنبها تعتمد على دوافعك، ولأن دوافع الناس تختلف فيما بينهم كثيراً فلن يكون هناك
صواب واحد وخطأ واحد، "وحدهم من يمتلكون النوع المناسب من الدوافع الأخلاقية
(التعاطف) يفعلون ما هو صائب لذاته بدون سبب يتعلق بمصالحهم سواء الدنيوية
أوالآخروية "هذا يجعل الأخلاق أكثر عمومية ولكن على حساب تجفيفها من منابعها
مثل أن تقول: (من الخطأ أن يرتكب شخص جريمة قتل لكن لا سبب لديه ليتجنب القتل!)"
لا تحضر فكرة
عمومية الأخلاق حين نقارن بين دوافع افراد مختلفين فحسب بل ايضاً حين نقارن بين
المعايير الأخلاقية في مجتمعات مختلفة وأزمنة مختلفة فأمور كثيرة نعتقد الآن أنها
خاطئة ولاأخلاقية قبلت في الماضي على أنها صائبة منها العبودية والتمييز العنصري
وضرب الأطفال، وما نعتقد أنه صواب حالياً سيأتي زمان حيث يرونه
خطأ ولاأخلاقي. وبعض ما هو مقبول في الغرب الآن يرفضه الشرق ويجرمه ويطالب بإيقاع أشد
العقوبات على ممارسيه.
مفهوم الصواب
والخطأ يختلف باختلاف الاشخاص والزمان والمكان ولكن هذا لا يعني أن الأخلاق نسبية على مستوى
القيم والمبادئ الإنسانية الأساسية التي يفترض أن تكون ثابتة مهما تغيرت الظروف، ما يتغير هو وعينا بها وقدرتنا على فرض تطبيقها والدفاع عنها.
كما أن القيم والمبادئ
الأساسية لا تتجزأ، لا يوجد قيم أخلاقية تفُرض على المرأة ويُعفى منها الرجل. ليس هناك مبرر
أخلاقي يتسامح مع خيانة الرجل لقدسية العلاقة الزوجية ويتشدد في رفضها من المرأة مثلاً. إزدواجية المعايير هذه وإن أقرها المجتمع فالدين أكد على المساواة وثبات المعيار عند الله سواء للذكر أو الأنثى وبأكثر من دليل (إنِّي لَا أُضِيعُ
عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ). والإنسان الأخلاقي الفاضل لايقبل الجريمة ويجد لها مبررات منطقية إن صدرت من ذي القربى أو المودة أو السلطة، ويرفضها من عدوه أو من يكره! في إصدار أحكامك الأخلاقية عليك أن تكون منصف وعادل وأن تستبعد مشاعرك ومصالحك وتشهد بالقسط حتى ولو كان
لصالح من تكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ
ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. العدل ولا شيء سواه (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ).
وبالحديث عن
الآحكام الأخلاقية..
نحن نحكم على
السلوك الأخلاقي ونستخدم هذا الحكم لنقرر من نحب ومن نكره منذ مرحلة الرضاعة -هنا ستجد فيديو
لتجربة شهيرة عن النمو الأخلاقي لدى الرضع-، ولكن بالنسبة
للبالغين لا نستخدم نتائج السلوك فقط لنصدر حكم أخلاقي بل نقيّم بحسب النوايا
أيضاً. ويختلف إصدارنا للأحكام الأخلاقية (اللوم أو العقاب) باختلاف النتيجة والنية..
إذا كنت لا
تنوي الاضرار بأحد لكنك آذيته بغير قصد (ضرر عرضي .. لا يوجد نية ولكن هناك نتيجة
سلبية)؛ سيعتقد الناس أنه يجب معاقبتك ولكن التخفيف من لومك.
لكن إذا كنت
تنوي الاضرار بأحد لكنك لم تنجح في ذلك (النية موجودة ولكن لم تحدث نتيجة سلبية)؛ فسيعتقدون بأنه لا يجب معاقبتك ولكن سيلومونك بشدة.
إذن يعتمد
اتخاذنا قرار (العقاب) على النتيجة، أما (اللوم) فيعتمد على النية.
آخيراً
سيتم تعريفنا وفقاً
لأفعالنا .. وليس نوايانا.
*الاقتباسات من كتاب (ماذا يعني هذا كله)
0 التعليقات:
إرسال تعليق