مترجم| مالذي يريده الناس من العلاج النفسي؟

الأحد، 11 ديسمبر 2022



من أجل الارتقاء بجودة الخدمات النفسية المقدمة.

 

في برنامج وثائقي جديد لكين بيرنز بعنوان: الاختباء على مرأى من الجميع: الأمراض النفسية للشباب؛ تحدث المشاركون عن كيف ضربت المعاناة العاطفية بجذورها في حياتهم وكيف استمرت في النمو بصمت وخجل، وبغض النظر عن اختلافهم في الجنس والعمر والعرق والهوية والظروف الاقتصادية والاجتماعية. الطفل ماكلاين -11 عامًا- بشعره الأشقر الناعم ووجهه الملائكي الذي يعكس براءة الطفولة وخلوها من الهموم خانته عيناه الكبيرتين وكشفت عن حزنه الدفين حين تحدث بهدوء مؤثر عن رغبته في الانتحار عندما كان في التاسعة من عمره. القصص التي كشف عنها هذا الوثائقي لماكلاين ورفاقه لم تكن ستأتي في أنسب من هذا الوقت الذي تتزايد فيه المعاناة النفسية وتصطدم بالنظام المتعثر للرعاية النفسية. بمجرد أن يقرر الناس أنهم بحاجة للمساعدة -وهو إنجاز في حد ذاته- فإنهم سيبحثون عن أفضل خدمات الرعاية النفسية. يوضح الوثائقي أن لكلٍ منهم احتياجات فريدة لا تشبه الآخر، ولا يوجد خدمة نفسية موحدة تناسب جميع الناس؛ لذا ينبغي العمل مع شخص محترف موثوق به ومتمكن لديه القدرة على تحديد وتقديم ما يناسب العميل؛ لأن التعرف على ما يناسب العميل يمثل جزءًا مهمًا من عملية العلاج. ولسوء الحظ فإن شركات القطاع الخاص والمستثمرين في الخدمات النفسية يحرصون على التسويق للخدمات الرقمية (تطبيقات المساعدة النفسية) بما أنها أصبحت تدر عليهم الكثير من الربح، ولكن هل تتوافق هذه الخدمات حقًا مع ما يحتاجه الناس ويريدونه؟ هل ستوفر لهم رعاية نفسية فعالة ونتائج ثابتة طويلة الأمد؟

 




ماذا يريد الناس من العلاج النفسي؟

من خلال بحثنا الخاص، فوجئنا عندما وجدنا أن ما يريده الناس بعيد تمامًا عن وعود الشركات القائمة على تطبيقات العلاج النفسي بالنتائج الفورية السريعة والعلاج في أي وقت وأي مكان. غالبية الناس (68%) يريدون الوصول إلى جذور مشكلاتهم، ورفع مستوى وعيهم بأنفسهم وفهمهم لذواتهم، وهذا ما يؤكده الوثائقي من خلال تسليطه الضوء على آثار الصدمات المتوارثة عبر الأجيال، والايذاء وسوء المعاملة والإدمان. ويدرك 70% من الناس "أن المشكلات العاطفية والنفسية تستغرق وقتًا لفهمها وحلها".  ويعتقد (64%) منهم أن " العلاج هو استثمار في الذات يستحق كل ما يقدم في سبيله من جهد ووقت ومال". ويفضل 91% منهم علاجًا يحدد الأسباب الجذرية للأعراض -حتى لو استغرق وقتًا أطول- بدلًا من العلاج الذي يهتم بالسيطرة على الأعراض فقط -بالرغم من أنه يتطلب عددًا أقل من الجلسات-. 

 

 

كيف يعمل العلاج النفسي؟

"ما يريده الناس من العلاج" يتوافق تمامًا مع "ما يجعل العلاج فعالًا". وقد أظهرت الدراسات خلال عقود من الزمن أن العنصر الرئيسي في نجاح العلاج هو "العلاقة العلاجية" بين المعالج والعميل، لكن بناء علاقة قوية وموثوقة يستغرق وقتًا؛ خاصة إذا ما كان العميل قد تعرض لخبرات من الإهمال، وإساءة المعاملة، وتعلم أن ترك مسافة كافية مع الآخرين هو ما يبقيه آمنًا؛ حيث سيدفع المعالج بعيدًا كلما حاول الاقتراب منه بما يكفي لمساعدته. وبالرغم من أن العديد من أنواع العلاج تتطلب من المعالج التعاطف والبعد عن إصدار الأحكام، كما توفر أدوات وتقنيات أثبتت نجاحها في التخفيف من الأعراض، إلا أن الناس أخبرونا أن ذلك لم يكن كافيًا وأنهم يريدون ما هو أكثر من ذلك بكثير؛ يريدون معرفة أنفسهم، وفهم الأسباب الكامنة لمعاناتهم، وتطوير قدرات جديدة تمكنهم من تغيير حياتهم.
مثل تلك النتائج غالبًا ما تتحقق مع المدراس العلاجية التي تركز على العمق والاستبصار والعلاقة مثل: التحليل النفسي، العلاج الإنساني، العلاج القائم على التعلق، العلاج النسقي الأسري، والعلاجات العلائقية. حيث تصل المحادثات في هذه الأساليب العلاجية إلى العمق، وتذهب إلى ما وراء الأفكار والمشاعر والسلوكيات السطحية؛ لتحديد المعتقدات المشوهة والمخاوف المخفية التي تؤثر على تقدير الذات والثقة بالنفس. تلك الأساليب تطور البصيرة والتأمل الذاتي لدى العملاء مما يمكنهم من التعرف على الأنماط السلوكية التي أعاقتهم عن تحقيق أهدافهم الشخصية أو المهنية، وتحديد التغييرات التي يرغبون في إجرائها، وكل ذلك يحدث في سياق علاقة متينة مع المعالج تسهل على العميل الانفتاح والإفصاح عن مكنونات نفسه دون أن يخاف من إصدار الأحكام أو يشعر بالخجل من نفسه، مثل هذه العلاقة تعزز إصلاح جروح وصدمات الماضي وتمثل نموذجًا علائقيًا يمكن من خلاله تطوير علاقات جديدة مُرضية للعميل ولمن حوله.


شفاء طويل المدى

أظهرت الدراسات أنه يمكن للناس إجراء تغييرات كبيرة ودائمة في حياتهم عن طريق الأساليب العلاجية التي تعتمد على العمق، الاستبصار، والعلاقة. بل وُجد أن التحسن يستمر بعد سنوات من توقف الناس عن العلاج. في المقابل؛ تظهر الدراسات أن الانتكاس يكون سريعًا وشائعًا في العلاجات قصيرة المدى مثل: العلاج الدوائي، والعلاج السلوكي المعرفي؛ حيث تتناول هذه الأساليب العلاجية عادة ما تراه على السطح (الاعراض والسلوكيات)، بالتالي توفر الراحة على مستوى سطحي، وقد وُجِد أن العلاج السلوكي المعرفي أقل فعالية بنسبة 50% مما كان يُعتَقد سابقًا. وقد تبدو العلاجات قصيرة المدى أقل تكلفة بالنسبة للعميل -نظرًا لقلة عدد الجلسات-، إلا أن التكاليف ستتضاعف لاحقًا بسبب تكرار الانتكاس والحاجة الملحة للعلاج.
وفي سياق الحديث عن التكلفة؛ أظهر بحثنا ايضًا أن الخوف من عدم القدرة على تحمل التكاليف يمثل السبب الرئيسي وراء عدم بحث الناس على العلاج النفسي. حيث أن التأمين لا يغطي تكاليف الجلسات النفسية. ولسوء الحظ فإن شركات التأمين تواصل استغلالها -اللاأخلاقي- للثغرات النظامية حتى تتجنب تغطية تكاليف علاج الاضطرابات النفسية. ويجب أن لا يقف سعي شركات التأمين لتحقيق أكبر قدر من الأرباح في طريق علاج الإدمان والصدمات وبقية الاضطرابات التي قد تهدد حياة الفرد وتدفعه للانتحار.


تطبيقات وروبوتات الدردشة "الشبيهة بالعلاج النفسي": بدائل رديئة للشيء الحقيقي

لسوء الحظ؛ عندما تعاني ستصبح أكثر هشاشة وأكثر قابلية للتعلق بأي قشة، وقد يكون من المغري حينها تجربة أحد تطبيقات الصحة النفسية التي شاعت في الفترة الأخيرة. في الواقع التطبيقات لا تقدم العلاج النفسي بالشكل النموذجي بل تقدم بدائل مخففة له مثل: تمارين المساعدة الذاتية، دردشات رقمية للتنفيس الانفعالي -لا تستند لأدلة علمية تثبت جدواها-، والتدريب الشخصي مع مدربين غير مرخصين من الأساس. وقد تم تحديد المخاطر المحتملة لمثل تلك التطبيقات حيث يمكن انتهاك سرية المستخدمين؛ فكثير منها قد يستخدم -بل ويبيع- بيانات المستخدمين من أجل التسويق. كما قد تم برمجة بعضها بنفس أجندة مبرمجي ألعاب الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي بحيث يستخدم الشخص المنتج لأطول فترة ممكنة. كما أن المستثمر في هذا المجال لا يستهدف التخفيف من معاناة الناس إنما يستهدف ببساطة تحقيق أعلى ربح من خلاله ثم الانتقال إلى استثمار آخر. سرعان ما سيجد مستخدمو هذه التطبيقات أنها غير مجدية، وتشير مقالة جديدة في مجلة تايم إلى أن فقاعة العلاج عبر الانترنت قد اقتربت بالفعل من الانفجار.
يدعي مروجو هذه المنتجات أنها تسهل الوصول للمعالج النفسي في أي وقت وأي مكان دون الحاجة لموعد ودون تكبد عناء الحضور للعيادات والمراكز الاستشارية، كما لو كانوا يبيعون الراحة والإرضاء الفوري للعميل، وبالرغم من أن ذلك قد يبدو مغريًا؛ إلا أن إرسال رسالة نصية إلى المعالج في أي وقت تشعر فيه بالتوتر والضيق قد يأتي بنتائج عكسية؛ حيث أنه لا يساعد في بناء الثقة بالنفس التي يُفترض أن يبنيها العميل بمرور الوقت في العلاج النفسي التقليدي، كما أنه لا يُمكِّنه من إدارة مشاعره وتحديد أهدافه وتقييم خياراته السلوكية واتخاذ خيارات جديدة أكثر حكمة بدلًا من ردود الفعل التلقائية النمطية التي اعتاد عليها بالرغم من أنها لا تخدم أهدافه. إن الوصول إلى الثقة بالنفس واكتساب مهارات وقدرات جديدة مثل إدارة وتنظيم المشاعر هي ما يحتاجه الناس من العلاج النفسي.

من جانب آخر؛ سهولة الوصول وتحقيق الراحة الفورية يأتي على حساب العلاقة العلاجية التي لها أهمية بالغة في رحلة العلاج؛ حيث أن التفاعل الشخصي السطحي والالتزام المحدود من قبل المعالج يقلل من احتمالية بناء علاقة علاجية متينة مع العميل. ورغم أن تكلفة التطبيقات أقل من العيادات إلا أن العميل لن يتخلص من المشكلة وسيستمر في دفع تكاليف أكثر بين فترة وآخرى، كما أنه سيدفع أكثر وفي المقابل سيحصل على خدمات علاجية أقل جودة. وأحد التطبيقات -تطبيق بلوم-  قد وصل إلى أبعد من ذلك؛ فقد شجع العميل على أن يكون "معالج نفسه"، وبالطبع لا يمكنك أن تكون "معالج نفسك" كما لا يمكنك أن تكون "والد نفسك". اخيرًا؛ التطبيقات وبرامج الدردشة العلاجية غير مجدية، وأجهزتنا الذكية لا تصلح لأكثر من الاختباء هربًا من المعاناة النفسية.

إمكانية الوصول إلى خدمات نفسية عالية الجودة

كمختصين نحن بحاجة الآن إلى الدفع من أجل العديد من التغييرات المهمة، نحن بحاجة إلى الحد من وصمة العلاج النفسي وطلب المساعدة من المختصين بتشجيع المشاهير والمؤثرين على الحديث عن تجربتهم، وبحاجة إلى الاستثمار في تثقيف المجتمع نفسيًا للوقاية من الاضطرابات. وبحاجة إلى دفع شركات التأمين لاحترام العلاج النفسي وتغطية تكاليفه، وبحاجة إلى استعادة ثقة المجتمع في المعالجين والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة، وبحاجة إلى توعية الجمهور بأنواع العلاج النفسي، وأيها الأكثر جدوى، والأكثر ملائمة لحالتهم، ومساعدتهم على الوصول إلى علاج نفسي عالي الجودة ويمكنهم تحمل تكاليفه.

 

كمختصين ايضًا؛ عرفنا منذ عقود أن الأساليب العلاجية القائمة على العمق والاستبصار والعلاقة فعالة جدًا ومجدية وتقدم للعميل فوائد ثابتة، وتكاليفها تمثل استثمارًا ناجحًا بالنسبة له، وبالرغم من طول جلساتها إلا أنها تستحق العناء. وما أصبحنا نعرفه الآن -من خلال هذا البحث- أن ذلك ايضًا هو بالضبط ما يريده الناس من العلاج النفسي.





مترجم عن: النص الأصلي



0 التعليقات:

إرسال تعليق