مترجم| التغريب الأسري

السبت، 19 يونيو 2021

 




يبدو التعامل مع الأبناء الكبار سلسًا وبسيطًا، فابنك الذي كان ينتقد كل ما تفعله حين كان في الخامسة عشرة من عمره، والذي كان يبدو متهيجًا مشحونًا لمجرد وجودك معه في نفس الغرفة، قد أصبح في الخامسة والعشرين، وأصبح مهتمًا بالاستفادة من خبراتك وسماع توجيهاتك

لكن الأمور لا تسير دائمًا على هذا النحو



في بعض الأحيان تتضخم الثغرات الحتمية في العلاقة بين الوالد والولد حين يكبر ولا تتقلص، وتستمر بدلًا عن أن تمر مع المراهقة كمرحلة عابرة، ويجتر الابن الكبير كل مشاعر الغضب والاستياء من طفولته ومراهقته. ومن وقت لآخر تستثير مشكلات -قابلة للحل- عواصف قديمة كامنة؛ تهدد بتدمير كل ما هو جيد في العلاقة. كما تقول دينيس والدة رايلي البالغة من العمر 29 عامًا "أشعر كما لو كانت علاقتي بها لحن لا يمكنني غناؤه"

حتى الآن هناك صمت تجاه هذه القضية أو ربما وصمة عار خاصة لو أدت صعوبات العلاقة إلى قطيعة عاطفية بين والد وولده. فإذا كنت تشكو من ابن مراهق ستجد لشكواك صدى، وإن بحثت ستعثر على كتب وبرامج تلفزيونية ومقالات والكثير من النصائح والتوجيهات قد تساعدك وتخفف همك، لكن إذا كنت تشكو ابنًا بالغًا أو والدًا فمن المرجح أن تصطدم بجدار من الصمت أو في أحسن الأحوال سيظهرون لك قناع من التعاطف المتكلف المصطنع والذي يشعرك بعدم رغبتهم في سماع المزيد منك

يعتبر التغريب الأسري من أكثر التجارب الإنسانية إيلامًا. لقد ولدنا بحاجة أساسية لرعاية الكبار وحبهم ولم يكن بوسعنا البقاء على قيد الحياة بدونهم، وهذه الحاجة لا تزول بعد أن نكبر ونصبح قادرين على الاعتناء بأنفسنا؛ حيث يتطور ذلك الاعتماد المبكر إلى ارتباط عاطفي يجعلنا نشعر كما لو كانت حياتنا تعتمد على التواصل معهم 

تقرير جديد كشف عن المأساة الخفية لتمزق الرابطة الوالدية الأساسية والتي تترك الشخص مع الآم مستمرة لا يمكنه السيطرة عليها ولا علاجها بسبب أفراد لم يعد لهم حضور في حياته كما لو كان يعاني من طرف شبحي Phantom limp

جو 34 عام يقول: " لم أعد أتحدث مع أمي لكنني اسمع صوتها كل يوم داخل رأسي، كل يوم تتكرر نفس السيناريوهات، كل يوم اتساءل عما إذا كنت افعل الشيء الصحيح، وأتمنى لو نعود .. لكنني كلما حاولت اصطدم بحائط غضبها وانتقاداتها.. لا يمكنني تقبل هذا الانفصال"، أحد الأشخاص ايضًا في التقرير يقول " تمنيت لو كان لدي أم تحبني وتتمنى لي الأفضل"

    يمثل تقرير الأصوات الخفية: التغريب الأسري للراشدين  Hidden Voices: Family Estrangement in Adulthood تعاونًا بين مركز أبحاث الأسرة في جامعة كامبريدج و مؤسسة Stand Alone الخيرية والتي تقدم الدعم للراشدين المنفصلين عن عائلاتهم. وقد شارك أكثر من 800 شخص تتراوح أعمارهم بين 18 - 60 عامًا في الدراسة، وقد كشفوا عن تجاربهم الشخصية للتغريب الأسري وقطيعتهم إما للعائلة كاملة أو عضو رئيسي فيها مثل أحد الوالدين أو أحد الأبناء. سابقًا كان هؤلاء يعانون في صمت ويشعرون بالإذلال والخجل والرفض، والبعض منهم يعتقد أن أفراد المجتمع يتجنبونه بسبب مشاكله العائلية
 
 وقد كشفت الدراسة أن الأشخاص المنفصلين عن أسرهم سعوا للحل لكنهم لم يجدوا إلا القليل من الدعم، حيث يرى بعضهم أن الخدمات الاجتماعية كانت غير مجدية، وأن تشجيع رجال الدين لأفراد المجتمع على التسامح لا يصل إلى المستوى المطلوب، كما أن ربع الذين طلبوا النصيحة من الأطباء يرون أن الأطباء غير مؤهلين لتقديم مثل هذه النصائح

    الدراسة كذلك تحدثت عن المحفزات الشائعة لآلام التغريب الخاملة لدى الشخص مثل: التواجد حول عائلة آخرى مما يحفز المقارنة ويشعر الشخص بالوحدة والافتقاد للدعم العائلي، كذلك أعياد الميلاد والتي لن يكون لها معنى إلا بالقرب ممن يسعدهم وجودك، كما تمثل مواسم الأعياد السبب الأكثر شيوعًا للألم؛ حيث وجد أن 9 من كل 10 أشخاص واجهوا تحدي مع ألم التغريب في تلك الأوقات

    الروابط الأسرية أساسية لتكويننا العاطفي والنفسي، ولا يوجد أي شخص طبيعي يتجنب أو يقاطع أحد من أفراد أسرته بدون سبب. وغالبًا ما يكون السبب ماضي من القسوة الشديدة والاعتداء الجسدي أو الجنسي وفقًا للأشخاص المشاركين في الدراسة. وهناك ايضًا أسباب آخرى أقل حدة ولكنها أكثر شيوعًا مثل صعوبة التوفيق بين الواقع والتوقعات في الأدوار والالتزامات العائلية أو بسبب معنى العلاقة الأسرية لدى الشخص، وصعوبات التواصل. إن حوالي 20٪ من الراشدين الذين يعانون من اضطراب علاقتهم بأحد والديهم ذكروا أن العلاقة دائمًا ما تبدو كما لو كانت على حافة منحدر؛ فالوالد الصعب باستمرار يشعر ابنه بالرفض والاستنكار والاشمئزاز وخيبة الأمل ويلومه لما هو عليه. ولا يتخد الابن القرار الصعب بقطع العلاقة إلا عندما يكون الحفاظ عليها مكلفًا من الناحية العاطفية ويضطره إلى تزييف حقيقته والتخلي عن طبيعته من أجل إرضاء أو تهدئة والده

    وتشير نتائج الاستطلاع في التقرير إلى أن قرار القطيعة لا يصدر غالبًا عن الوالد الرافض إنما عن الابن، كما أن القرار لا يتم اتخاذه في ذروة المراهقة إنما بين سن 35-24 عامًا. وبناء على بحثي الخاص؛ افترض أن التغريب تم تحفيزه عن طريق سنوات من المحاولات الفاشلة لتحقيق التوافق والانسجام، وأن الابن البالغ طالما كان يشعر باغتراب عميق في العلاقة، وأن أي انسجام ظاهري سابق كان يستند إلى اظهار الذات المزيفة للوالد

التغريب الأسري يكون مؤقتًا في بعض الأحيان، لكن الابن يعتقد أن العلاقة الوظيفية مع والده من المستحيل أن تتحقق بدون مشاعر الألم والإذلال. تقرير الأصوات الخفية يذكرنا بالتكلفة الباهظة للتغريب الأسري والتراجيديا التي ستؤثر على الرفاه النفسي لجميع الأشخاص المعنيين. غالبًا ما يتمنى أفراد الأسرة المنفصلون لفترة طويلة بأن تتحسن الأمور.. تتحسن قليلًا بما يكفي لوقف تيار الخسائر؛ فجرح التغريب لا يتحول إلى ندبة.. يبقى جرحًا مفتوحًا إلى الأبد

الرسالة الأساسية هنا هي أن صعوبات العلاقة بين الآباء وابنائهم الكبار موضوع يستحق المزيد من الاهتمام


مترجم عن: النص الأصلي








 


0 التعليقات:

إرسال تعليق