أظهرت دراسات لا حصر لها أن خبرات الطفولة السيئة تطور العديد من الصعوبات في وقت لاحق من الحياة و أن طرق التفاعل الاجتماعي وضعت بذورها خلال تلك المرحلة المبكرة من العمر. ويعد الاكتئاب أحد أهم النتائج التي تم دراستها في سياق خبرات الطفولة السيئة؛ فقد توصل عالم النفس ريتشارد ليو أن خبرات الطفولة السيئة تزيد نسبة احتمالية الإصابة بالاكتئاب إلى ضعفين و من المرجح أن يتكرر لأكثر من نوبة كما ترتبط ايضاً بالحاجة إلى وقت أطول للتعافي من الاكتئاب، وكل هذا قد يحدث سواء كانت خبرات الطفولة السيئة على شكل اعتداء جنسي أو اساءة عاطفية أو اساءة جسدية أو إهمال.
الطفولة قد لا تؤثر على الصحة النفسية فقط بل ايضاً على الصحة الجسدية.
ففي دراسة طولية من المملكة المتحدة أثبتت أنه بمعرفة البيئة الأسرية و الحالة الاجتماعية/ الاقتصادية في عمر الرابعة يمكن التنبؤ عما إذا كان الشخص سيصاب بالآم الظهر المزمنة في الستينات من العمر.
وليس لدى البشر وحدهم؛ ففي دراسة لمعمل مايكل مينيه وُجِد أن الطريقة التي يتم بها معاملة الفئران في طفولتهم تؤثر على الكيفية التي تستجيب بها أجسادهم و أدمغتهم للضغوط طيلة حياتهم؛ فتؤثر على صحة الدماغ و الذاكرة. ونفس النتائج نجدها بوضوح لدى البشر ايضاً.
بصفتي معالج سلوكي معرفي أميل للتركيز على التحديات في حاضر الشخص و ليس ماضيه. ولكن في الوقت نفسه أصاب بالدهشة مراراً و تكراراً حين أرى من أين تأتي أنماط السلوك و التفكير الخاطئة القائمة منذ أمد طويل. إن إدراك الرابط بين الطفولة و الرشد يشكل جزء هام من نمو الشخص. و الوقت وحدة لا يضمن أن آثار تجاربنا المبكرة ستتلاشى كغيرها من التجارب.
دعونا نفكر في بعض العوامل التي تفسر لماذا تتبعنا هذه التجارب لبقية حياتنا
١- الشخصية
الشخصية هي الطرق الثابتة نسبياً التي نفكر أو نشعر أو نتصرف أو نستجيب بها في بيئتنا. وقد أكدت دراسة حديثة على تأثير خبراتنا الأسرية على شخصياتنا و علاقاتنا.
واستطرد الباحثين في الدراسة في استكشاف كيف تؤثر جودة العلاقات المبكرة على الحالية؛ فالأشخاص الذين نشأوا في عائلات سيئة يميلون لأن يكونوا على درجة عالية من العصابية (سمة في الشخصية نسميها بالعامية نفسية/ سايكو) و التي تقود إلى علاقة منخفضة الجودة مع الشريك.
إذن علاقاتنا المبكرة تشكل شخصياتنا و التي بدورها تؤثر في تجاربنا اللاحقة. (ويجب أن أذكر أن جزء كبير من الفروق الفردية في الشخصيات يعود للوراثة و الجينات؛ لذا فالعائلة يمكنها التأثير علينا بالفطرة "الجينات" و التنشئة)
٢- قلة الوعي
النمو غير المناسب يكون نتيجة للتعرض المفرط لخبرات حياتية غير" صحية ومليئة بالتوتر و الضغوط في وقت قلة الوعي في الطفولة حيث لم تتطور لدى الشخص بعد الوسائل النفسية التي تساعده على مواجهتها"
مقتبس من كتاب علم الأمراض النفسية والعقلية لمحمد السيد عبدالرحمن
٣- أنماط السلوك المترسخة
كلما مارسنا أساليب معينة للاستجابة كلما أصبح لدينا نزعة أقوى لتكرارها فيما بعد. كراشدين دائماً ما نمارس العادات القديمة. مثلاً.. تخيل لو كنت طفل اعتاد على الشعور بالخجل على أي خطأ بسيط يرتكبه و تعلم أن يخفي أخطائه بأي ثمن لأنها أفضل طريقة لتجنب إساءة معاملته،؛ كشخص بالغ قد تستمر في حماية نفسك بقوة ضد الشعور بالخجل والعار من الأخطاء حتى في المواقف التي لم تعد تعاقب عليها! وقد تتزوج من شخص محب و لطيف و لا يتعمد احراجك أو جعلك تخجل من نفسك ومع ذلك يستمر لديك نفس نمط السلوك القديم ويستمر خوفك من تعريض نفسك للوم!
تغيير العادات التي تشكلت على مدى الحياة قد يتطلب منا الكثير من الانتباه و الإهتمام حتى و إن كنا نعرف ما ينبغي علينا تغييره قد نعود إلى ممارسة نفس الطرق القديمة التي اعتدنا عليها في أوقات الأزمات.
٤- الاحساس بالهوية
العلاقات المبكرة المتينة في حياتك يمكنها أن تساعدك على تنمية احساس ثابت بـ"من أنا" و الذي تسميه الدراسات (وضوح مفهوم الذات) و عكسه الشعور بالحيرة تجاه نفسك وما تريد.
هذا الاحساس بالهوية يتطور عبر تفاعلاتنا مع الآخرين في الطفولة خاصة. و توفر العلاقات الايجابية المستقرة إطار محدد يمكن الاعتماد عليه لتنمية الهوية.
أظهرت دراسات حديثة أن خبرات الطفولة السيئة ترتبط بانخفاض وضوح مفهوم الذات لاحقاً و الذي بدوره يؤدي إلى الإكتئاب، العزلة، الضغوط المتصورة، و المعاناة في الحياة. وفي المقابل الاحساس الواضح بالهوية يمكنه أن يحمينا من الاكتئاب والعزلة.
٥- التفاعلات مع الآخرين
بالنظر إلى أنماط التعلق فعلاقاتنا المبكرة مع مقدمي الرعاية تلعب دور كبير في ما إذا كنا سنرتبط بشكل آمن أو غير آمن في علاقاتنا الحميمة اللاحقة.
أصحاب التعلق المنشغل غير الآمن سيمرون بأوقات صعبة للعناية بالعلاقة و سيصابون بالذعر من الهجر وسيبذلون الكثير من الجهد لتجنبه، وهذا السلوك المنفر بدوره يقود الشريك إلى أن ينأى بنفسه مما يحفز شعور (الخوف من الهجر) أكثر و يزيد التشبث وهكذا تستمر دورة التعلق. وكنتيجة لذلك تفاعلاتنا مع الآخرين كبالغين قد تضخم الميول التي طورناها في الطفولة. دراسة حديثة أكدت ان هذا النموذج يظهر غالباً لدى الراشدين ذوي التاريخ من الإساءة الجسدية أو الإهمال. قد يقود إلى الاكتئاب أو القلق و تدني تقدير الذات.
٦- تغيّرات الدماغ
لقد مر أكثر من عقد من الزمان على نشر مارثا فرح المتخصصة في علم النفس العصبي و المعرفي بحثها عن آثار الفقر على نمو الدماغ، وقد سلط كيو الضوء إلى الفروق في نمو الدماغ المرتبطة بمشكلات الطفولة بما في ذلك نقص حجم الحصين (المسؤول عن التعلم والذاكرة) وزيادة التفاعل في اللوزة المخية (المسؤولة عن الخوف و العواطف الآخرى) و الشذوذات في الفصوص الأمامية (المرتبطة بتنظيم العاطفة وتخطيط السلوكيات المعقدة). هذه الدراسات تؤكد أن تجاربنا تشكل "حرفياً" أدمغتنا ويمكن أن تستمر تجاربنا الجديدة في تشكيل أدمغتنا و استجاباتنا للضغوط بشكل ايجابي إذا توفرت الظروف الصحيحة "إعادة تشكيل".
٧- المعتقدات الجوهرية
بما أن خبراتنا تؤثر على أدمغتنا إذن لن يكون من المفاجيء أنها تؤثر ايضاً على عقولنا. "العقل هو الوظيفة ى الدماغ هو الأداة"
في العلاج السلوكي المعرفي تعرف المعتقدات الجوهرية على أنها طريقتنا الأساسية في رؤية أنفسنا و العالم من حولنا والتي يتم تطويرها من خلال تجارب المراحل المبكرة من العمر وينتج عنها أفكارنا التلقائية التي نتصرف وفقاً لها.
مثلاً.. إذا كان لدي معتقد جوهري بأنني غير محبوب وزوجتي لم ترحب بي بدفء عندما دخلت للمنزل. فوراً سأفسر هذا التصرف بأنها لا تهتم بي، وهذه الفكرة التلقائية بدورها ستؤدي للشعور بالحزن و التعاسة و ربما الانسحاب وبالتالي إضعاف العلاقة.
المعتقدات الجوهرية على مستوى عالي من السمّية؛ سمّيتها تكمن في قدرتها على التعزيز الذاتي، لأنها تحيز تصورانا للواقع و تحفز نفس الأفكار التلقائية في كل موقف، والتي بدورها تعزز المعتقد الجوهري و تؤكده في كل مرة. الاعتراف بخطأ هذه المعتقدات و إعادة تشكيلها يتطلب جهد كبير و عمل مركز مع المعالج النفسي.
٨- الذكريات غير المعالجة
أحداث الحياة الصادمة قد تربك أنظمتنا العصبية و لا تتم معالجة ذكرياتنا لكل الأحداث بشكل كامل. رغبتنا في تجنب هذه الذكريات المؤلمة تحول دون مواجهتها ثم تقبلها والتصالح معها.
ورغم أنها مدفونة ولا نتذكرها إلا أنها تتطفل على إدراكنا و قد تثير الذعر دون سبب منطقي في بعض المواقف و تغمر أجسادنا بهرمونات التوتر و تؤثر على الكيفية التي نرى بها أنفسنا و الآخرين و العالم.
هذه الديناميات يمكن مشاهدتها بصورة أوضح في اضطراب كرب ما بعد الصدمة. وسواء حدثت الصدمة في الطفولة أو في وقت لاحق من العمر فإن الذكريات الدفينة غير المعالجة قد تستمر في مطاردتنا. لكن بمواجهة الذكريات المظلمة في محيط آمن وداعم يمكننا السماح للجرح المفتوح بأن يشفى، قد يترك ندبة لكن لن يدوم الألم بعد ذلك.
كيف نتغير ونتخطى طفولتنا؟
يقول ويلز "من المثير أن نعرف أن إدراك و تحديد خبرات الطفولة المؤثرة هو في الوقت نفسه من يمكننا من التحرر منها"
سلوكنا في الحاضر يحمل توقيع الماضي، لكن سحب تجارب الماضي و الاعتراف بمدى تأثيرها على ردود أفعالنا في الوقت الحالي يسمح لنا بتولي زمام تصرفاتنا ويتيح لنا مزيد من الخيارات في كيفية الاستجابة في كل موقف (هل سنتصرف وفقاً لها أم سنمنع تحكمها بنا).
إن التعامل مع الماضي لا يعني التحجج بتأثيره، و إلقاء المسؤولية على احداثه و كأنه لا خيار أمامنا، و الانغماس في البؤس، و التمرغ في المعاناة ولوم الوالدين، والشعور بالأسف تجاه أنفسنا. قد تؤثر فينا ظروف الماضي لكننا لسنا مجرد نتيجة لما حدث وضحايا لأحداث الماضي، لدينا قدرة على تخطيه و علينا مسؤولية تغيير سلوكياتنا.
كما لا يمكننا أن ننكر تأثير الماضي لأن إنكاره يعني أننا لا نتعلم منه، لذلك يوصي ويلز بإتباع نهج متوازن ويقول " يجب أن نؤكد على الحرية و المسؤولية دون أن ننكر أننا نتاج الظروف، ويجب أن نؤكد أننا نتاج الظروف دون أن ننكر أن لدينا الحرية في تجاوز تلك العلاقة السببية"
سيث قيليهان ؛ أستاذ مساعد في علم النفس الاكلينيكي
مترجم بتصرف عن: النص الأصلي
جميل جداً شكراً لجهودك ، لامسني المقال جداً وأسعدني بقدر ما أنار لي بصيرتي .
ردحذف